قبل أن ينام الأب ، يطرق باب الغرفة و في يده سبحة، يدخل ليجد ابنه الوحيد "نجيب" ذي السابعة عشر غارقا في كتبه و دفاتره المكدسة، بينما الحاسوب شغال وعليه أناشيد دينية تنبعث من مكبراته الصوتية، يدنو من الإبن قليلا و يشاهده يشتغل يدرس و يكد بلا ملل، وعلى وجهه تلك النظرة بالفخر والإعتزاز لما يرى أمامه ويهمس في قرارة نفسه " هذه نتيجة تربيتي…. هذا هو ابني… لا سيجارة… لا مخدرات… لا فتيات… هذا ما جنيته الحمد لله"
يستدير الأب ويذهب للنوم، رغم تعليمه ومستواه الثقافي المتوسط، لم يدرك بعد أنه يترك مع نجيب ذلك الصندوق وشاشته بفضلهما يمكنه السفر بعيدا بدون تأشيرة ولا جواز سفر...
يدع نجيب كتبه و تمارينه جانبا و يوقف صوت النشيد، بعد الإطمئنان من انسحاب الأب ويعلنها مع نفسه: حانت ساعة الترويح عن النفس، يمسك فأرته بيده فينطلق للإبحار في العالم الإفتراضي، مقاطع فيديو ساخرة من هنا، و صديقة جديدة يضيفها للائحته المثقلة بالأصدقاء من هناك، وآخر يشاركه صورة رائعة،... نجيب يلهي وقته بالتجول في المواقع إلى حين انضمام صديقته المعهودة "لطيفة" كما اعتادا أن يلتقيا في هذا الوقت، "لقد تأخرت الليلة قليلا...!!! " هكذا يتساءل نجيب، تمر بضع دقائق و تضيء في الشاشة نقطة خضراء تخص لطيفة، فجأة تغيرت ملامح محياه و كم كانت سعادته غامرة، إنها الصديقة و الأنيسة الوفية، الملاذ اللذي يفتح له أبواب الكلام والبوح لما يخالجه من أحاسيس عميقة بكل حرية في وقت تغلق عليه أبواب "سجنه" أقصد غرفته العلوية، كل ذلك الصمت الذي يحوم حول نجيب التلميذ الغامض يتحول بقدرة قادر و بلمسة حنان وارتياح من لطيفة إلى فضفضة تترجمها أصوات الأصابع وهي تنقر حروفا على لوحة مفاتيح الحاسوب، يناقشان بكل جدية تارة و يتصارحان باعتراف صادم تارة أخرى ... وما أحلى دردشات الليل في سكونه ... ناهيك عن ظلام يلون الغرفة بسواد يكسره شعاع ضوء الشاشة، مما يضفي على الجو حميمية دافئة...
تمر ثلاث ساعات بسرعة البرق على عاشقي السمر و لم يكثرتا بالوقت السريع كالبرق، بل تماديا في إطلاق العنان لعاطفتيهما جعلتهما يقربان بعضهما بدون حواجز الخجل و الحشمة، فتجاوزا مستوى النقاش والدردشة إلى إرسال قلوب حمراء دليلا على حبهما المخزون في وجدانيهما ثم صورة لشفتين حمراوين تعكس القبلة اللتي يتجرءان على تبادلها -على النت طبعا- ...
"الله أكبر ... ألله أكبر ....... الصلاة خير من النوم ....." أنه أذان الفجر! لما سمعه نجيب تذكر والده المحافظ على الصلوات في وقتها، سيقوم لصلاه الفجر، في الحين قام وودع لطيفة وعلى عجل أغلق البرامج و أوقف الحاسوب فورا عن الإشتغال مستلقيا بكل انسلال فوق سريره محاولا إدعاء النوم ، فرأى الضوء يشتعل كما أحس بحركة داخل المنزل، إنه الأب اللذي توضأ و يأبى إلا أن يلقي تلك النظرة الصباحية على نجيب الذي لا زال لم يغمض له جفن، يفتح باب الغرفة قليلا و يسرق لمحة في هدوء، يعيد غلق الباب و يهمس بالكلمات نفسها "الحمد لله ........ هذا هو ابني البار ... حفضه الله"